ها نحن نقترب من مرحلة جديدة في سوريا. المؤتمر المنوي عقده في جنيف لا يبدو أنه سيخرج بنتائج قابلة للترجمة. لكن وظيفته باتت محصورة في رسم الإطار العام. وهذا يعني أن كل الذين عملوا خلال عامين وأكثر على إسقاط النظام في سوريا سيقرّون مداورة بأن النظام عصيّ على السقوط، وأن الرئيس بشار الأسد باق في موقعه. وفي المقابل، سيعطي النظام إشارة عملانية على استعداده للتفاوض مع جهات ترتبط بشكل وثيق بالمجموعات المسلحة التي تخوض المعارك على الأرض.
عدم قدرة المؤتمر على إنتاج تسوية سريعة عائد الى أسباب كثيرة، أبرزها أن المعركة القائمة على الأرض تتجه صوب وقائع ميدانية مختلفة عما كان عليه الأمر يوم انطلق البحث في مؤتمر «جنيف 2». وليس خافياً على أحد من المعنيين أن الحكم في سوريا، بدعم واضح من حلفائه، بصدد شن المزيد من الهجمات الهادفة الى استعادة السيطرة على مناطق كبيرة في ريف دمشق وريف حلب، والسيطرة على محافظة حمص بصورة كاملة.
في المقابل، تواجه قوى المعارضة المسلحة أزمات متتالية، أبرزها عدم قدرة قيادتها السياسية على التوحد في إطار أو خلف موقف موحد. واشتداد المعركة بين القوى الخارجية الراعية لهذه المعارضات على من يتولى الإمرة. كذلك تواجه المجموعات المسلحة أزمة فقدان القدرة على خلق قيادة سيطرة منسقة بشكل فعال. ويشير معنيون ومتابعون للمعارك القائمة على أكثر من محور الى أن حجم البلبلة في صفوف المجموعات المسلحة يزداد يوماً بعد يوم، سواء على خطوط المواجهة المباشرة أو في المناطق الخلفية. بينما يرتفع منسوب التململ عند الأهالي في المناطق التي تخضع لسيطرة المسلحين، جراء أعمال النهب والسرقة والخوات من جهة، ومحاولة المجموعات التكفيرية فرض طقوسها الاجتماعية وعاداتها على السكان المحليين.
وسط هذه الأجواء، يحلو لكثيرين من أنصار المجموعات المسلحة، أو معارضي النظام، الحديث عن أن موازين القوى سببها الدعم الكبير الذي يحصل عليه النظام من حلفائه الخارجيين، مقابل امتناع أو استكانة داعمي المجموعات المسلحة عن تقديم ما تحتاج إليه لحسم المعركة.
الأمر الأكيد، أن المجموعات المسلحة ومن يعمل معها، بما في ذلك «كتبة جبهة النصرة»، يعيشون وهم قدرة الجيوش الغربية على الدخول في معركة فاصلة الآن، وأن الامر لا يحتاج إلا الى أمر عسكري أو إداري فقط. وهؤلاء لا يريدون الاقتناع بأن الغرب ومن معه من عرب يقومون بما يقدرون على القيام به لدعم المجموعات المسلحة. ولو أن كثيرين منهم يسعون بقوة إلى تدمير سوريا، ولا يهتمون لمن يسقط أو لما يدمر. وبعضهم يتمنى لو تستمر الحرب هناك سنوات طويلة وتنتقل الى دول أخرى، كالعراق ولبنان مثلاً.
منذ أكثر من سنة ونصف، بادر المسلحون وجماعات الضغط الداعمة لهم في المنطقة الى التواصل مع الأتراك وبعض الدول العربية ودول في أوروبا والولايات المتحدة لحثهم على التدخل مباشرة في الحرب الدائرة في سوريا، إن من خلال إرسال قوات عسكرية أو فرض حظر جوي، ومن ثم صار الضغط لإرسال خبراء وتدريب المسلحين، وتسهيل عبور المقاتلين من دول خارجية، وطلب أسلحة من أنواع مختلفة.
الذي حصل، أن تركيا فتحت الحدود على مصراعيها، ولم تسهّل دخول مقاتلين وأسلحة فقط، بل أقامت معسكرات تدريب داخل أراضيها ثم داخل الأراضي السورية لتدريب المسلحين. وترافق ذلك مع فتح الباب أمام عملية تسليح متنوعة، قائمة أساساً على ما يقدر المسلحون على استعماله. ثم تطور الأمر الى تزويد هذه المجموعات بكمية من المعلومات ذات الطابع الاستخباري، ووصل الأمر الى حدود إرسال داعمي المسلحين عناصر من استخباراتهم العسكرية الى داخل الأراضي السورية.
وفيما كانت دول الخليج العربي، السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص، ترصد ملايين الدولارات لدعم هذه المجموعات، وذلك تحت ألف عنوان وعنوان، كان العمل الأمني ينشط بقوة مع الدعاية الإعلامية لتسهيل عملية انشقاق آلاف الضباط والعسكريين عن الجيش، وبعض الموظفين في الإدارة العامة للدولة السورية. وهو ما تعزز بتعاظم دور الملك الأردني وجماعاته الأمنية والعسكرية داخل الدولة، والدور الإضافي لفريق 14 آذار في لبنان.
وبرغم علم الكل بأن بيانات مجلس الأمن والعقوبات والحصار لا تفيد فعلياً في معركة كهذه، فإن الدبلوماسية العالمية لم تترك وسيلة إلا لجأت إليها لتحقيق هدفها. لكن الحقائق كانت تقول العكس. فلا النظام انهار، ولا الجيش تفكك، وظهر أن قسماً كبيراً من الشعب السوري لا يزال واقفاً الى جانب النظام، وأن آخرين يدعمون المعارضين صاروا يعادون خيار اللجوء الى السلاح، وهم يفضلون النظام على المجموعات التكفيرية التي تتوسع سيطرتها على العمل المسلح.
لكن، لا نعرف ما هي الصفة التي تنطبق على هؤلاء: هل هي الغباء، أو السذاجة، أو الغلو والحقد، أو العمالة، حتى وصل الأمر بهم الى تجاهل حقيقة أن جيوش الغرب لن تقدر على التدخل مباشرة إلا إذا كانت في صدد الدخول في مواجهة لن تقف عند حدود سوريا. وهو ما جعل عرب أميركا مستعدين لبيع فلسطين ألف مرة ومرة، مقابل ضمان قيام إسرائيل بالمهمة.
«جنيف – 2» مهمة ضرورية، ووقف حمام الدم مطلب حقيقي للشعب السوري، لكن، للأسف، لم يحن بعد أوان الحل!